فصل: ذكر الخطبة للسلطان بركيارق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر قتل تاج الملك:

كان تاج الملك مع عسكر خاتون، وشهد الوقعة، فهرب إلى نواحي بروجرد، فأخذ وحمل إلى عسكر بركيارق، وهو يحاصر أصبهان، وكان يعرف كفايته، فأراد أن يستوزره، فشرع تاج الملك في إصلاح كبار النظامية، وفرق فيهم مائتي ألف دينار سوى العروض، فزال ما في قلوبهم.
فلما بلغ عثمان نائب نظام الملك الخبر ساءه، فوضع الغلمان الأصاغر على الاستغاثة، وأن لا يقنعوا إلا بقتل قاتل صاحبهم، ففعلوا، فانفسخ ما دبره تاج الملك، وهجم النظامية عليه فقتلوه، وفصلوا أجزاء، وكان قتله في المحرم سنة ست وثمانين، وحملت إلى بغداد إحدى أصابعه.
وكان كثير الفضائل، جم المناقب، وإنما غطى محاسنه ممالأته على قتل نظام الملك، وهو الذي بنى تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وعمل المدرسة التي إلى جانبها، ورتب بها الشيخ أبا بكر الشاسي، وكان عمره حين قتل سبعاً وأربعين سنة.

.ذكر ما فعله العرب بالحجاج والكوفة:

سار الحجاج هذه السنة من بغداد، فقدموا الكوفة، ورحلوا منها، فخرجت عليهم خفاجة، وقد طمعوا بموت السلطان، وبعد العسكر، فأوقعوا بهم، وقتلوا أكثر الجند الذين معهم، وانهزم باقيهم، ونهبوا الحجاج، وقصدوا الكوفة فدخلوها، وأغاروا عليها، وقتلوا في أهلها، فرماهم الناس بالنشاب، فخرجوا بعد أن نهبوا، وأخذوا ثياب من لقوه من الرجال والنساء، وفصل الخبر إلى بغداد، فسيرت العساكر منها، فلما سمع بنو خفاجة انهزموا، فأدركهم العسكر، فقتل منهم خلق كثير، ونهبت أموالهم، وضعفت خفاجة بعد هذه الوقعة.

.ذكر عدة حوادث:

فيها، في ربيع الأول، عاد السلطان من بغداد إلى أصبهان، وأخذ معه الأمير أبا الفضل جعفر ابن الخليفة المقتدي بأمر الله من ابنة السلطان، وتفرق الأمراء إلى بلادهم، ثم عاد إلى بغداد، فتوفي كما ذكرناه.
وفيها، في جمادى الأولى، احترق نهر المعلى، فاحترق عقد الحديد إلى خربة الهراس، إلى باب دار الضرب، واحترق سوق الصاغة والصيارف، والمخلطين، والريحانيين، وكان الحريق من الظهر إلى العصر، فاحترق منها الأمر العظيم في الزمان القليل، واحترق من الناس خلق كثير، ثم ركب عميد الدولة بن جهير، وزير الخليفة، وجمع السقائين، ولم يزل راكباً حتى طفئت النار.
وفي هذه السنة توفي عبد الباقي بن محمد بن الحسين بن ناقيا الشاعر البغدادي، سمع الحديث، وكان يتهم بأنه يطعن على الشرائع، فلما مات كانت يده مقبوضة، فلم يطق الغاسل فتحها، فبعد جهد فتحت فإذا فيها مكتوب:
نزلت بجار لا يخيب ضيفه، ** أرجي نجاتي من عذاب جهنم

وإني على خوفي من الله واثق ** بإنعامه، والله أكرم منعم

وفيها توفي هبة الله بن عبد الوارث بن علي بن أحمد أبو القاسم الشيرازي الحافظ، أحد الرحالين في طلب الحديث شرقاً وغرباً، وقدم الموصل من العراق، وهو الذي أظهر سماع الجعديات لأبي محمد الصريفيني، ولم يكن يعرف ذلك. ثم دخلت:

.سنة ست وثمانين وأربعمائة:

.ذكر وزارة ابن نظام الملك لبركيارق:

كان عز الملك أبو عبد الله الحسين بن نظام الملك مقيماً بخوارزم، حاكماً فيها وفي كل ما يتعلق بها، إليه المرجع في كل أمورها السلطانية، فلما كان قبل أن يقتل أبوه حضر عنده خدمة له وللسلطان، فقتل أبوه، ومات السلطان، فأقام بأصبهان إلى الآن.
فلما حصرها بركيارق، وكان أكثر عسكره النظامية، خرج من أصبهان هو وغيره من إخوته، فلما اتصل ببركيارق احترمه، وأكرمه، وفوض أمور دولته إليه، وجعله وزيراً له.

.ذكر حال تتش بن ألب أرسلان:

كان تتش بن ألب أرسلان صاحب دمشق وما جاورها من بلاد الشام، فلما كان قبل موت أخيه السلطان ملكشاه، سار من دمشق إليه ببغداد، فلما كان بهيت بلغه موته، فأخذ هيت، واستولى عليها، وعاد إلى دمشق يتجهز لطلب السلطنة، فجمع العساكر، وأخرج الأموال وسار نحو حلب، وبها قسيم الدولة آقسنقر، فرأى قسيم الدولة اختلاف أولاد صاحبه ملكشاه، وصغرهم، فعلم أنه لا يطيق دفع تتش، فصالحه، وصار معه، وأرسل إلى باغي سيان، صاحب أنطاكية، وإلى بوزان، صاحب الرها وحران، يشير عليهما بطاعة تاج الدولة تتش حتى يروا ما يكون من أولاد ملكشاه، ففعلوا، وصاروا معه، وخطبوا له في بلادهم، وقصدوا الرحبة، فحصروها، وملكوها في المحرم من هذه السنة، وخطب لنفسه بالسلطنة.
ثم ساروا إلى نصيبين، فحصروها، فسب أهلها تاج الدولة، ففتحها عنوة وقهراً، وقتل من أهلها خلقاً كثيراً، ونهبت الأموال، وفعل فيها الأفعال القبيحة، ثم سلمها إلى الأمير محمد بن شرف الدولة العقيلي، وسار يريد الموصل، وأتاه الكافي بن فخر الدولة بن جهير، وكان في جزيرة ابن عمر، فأكرمه، واستوزره.

.ذكر وقعة المضيع وأخذ الموصل من العرب:

كان إبراهيم بن قريش بن بدران، أمير بني عقيل، قد استدعاه السلطان ملكشاه سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة ليحاسبه، فلما حضر عنده اعتقله، وأنفذ فخر الدولة بن جهير إلى البلاد، فملك الموصل وغيرها، وبقي إبراهيم مع ملكشاه، وسار معه إلى سمرقند، وعاد إلى بغداد، فلما مات ملكشاه أطلقته تركان خاتون من الاعتقال، فسار إلى الموصل.
وكان ملكشاه قد أقطع عمته صفية مدينة بلد، وكانت زوجة شرف الدولة، ولها منه ابنها علي، وكانت قد تزوجت بعد شرف الدولة بأخيه إبراهيم، فلما مات ملكشاه قصدت الموصل، ومعها ابنها علي، فقصدها محمد بن شرف الدولة، وأراد أخذ الموصل، فافترقت العرب فرقتين: فرقة معه، وأخرى مع صفية وابنها علي، واقتتلوا بالموصل عند الكناسة، فظفر علي، وانهزم محمد، وملك علي الموصل.
فلما وصل إبراهيم إلى جهينة، وبينه وبين الموصل أربعة فراسخ، سمع أن الأمير علياً ابن أخيه شرف الدولة قد ملكها، ومعه أمه صفية، عمة ملكشاه، فأقام مكانه، وراسل صفية خاتون، وترددت الرسل، فسلمت البلد إليه، فأقام به.
فلما ملك تتش نصيبين أرسل إليه يأمره أن يخطب له بالسلطنة، ويعطيه طريقاً إلى بغداد لينحدر، ويطلب الخطبة بالسلطنة، فامتنع إبراهيم من ذلك، فسار تتش إليه، وتقدم إبراهيم أيضاً نحوه، فالتقوا بالمضيع، من أعمال الموصل، في ربيع الأول، وكان إبراهيم في ثلاثين ألفاً، وكان تتش في عشرة آلاف، وكان آقسنقر على ميمنته، وبوزان على ميسرته، فحمل العرب على بوزان، فانهزم، وحمل آقسنقر على العرب فهزمهم، وتمت الهزيمة على إبراهيم والعرب، وأخذ إبراهيم أسيراً وجماعة من أمراء العرب، فقتلوا صبراً، ونهبت أموال العرب وما معهم من الإبل والغنم والخيل وغير ذلك، وقتل كثير من نساء العرب أنفسهن خوفاً من السبي والفضيحة.
وملك تتش بلادهم الموصل وغيرها، واستناب بها علي بن شرف الدولة مسلم، وأمه صفية عمة تتش، وأرسل إلى بغداد يطلب الخطبة، وساعده كوهرائين على ذلك، فقيل لرسوله: إنا ننتظر وصول الرسل من العسكر، فعاد إلى تتش بالجواب.

.ذكر ملك تتش ديار بكر وأذربيجان وعوده إلى الشام:

فلما فرغ تاج الدولة تتش من أمر العرب، وملك الموصل وغيرها من بلادهم، سار إلى ديار بكر في ربيع الآخر، فملك ميافارقين وسائر ديار بكر من ابن مروان، وسار منها إلى أذربيجان. فانتهى خبره إلى ابن أخيه ركن الدين بركيارق، وكان قد استولى على كثير من البلاد، منها: الري، وهمذان، وما بينهما، فلما تحقق الحال سار في عساكره ليمنع عمه عن البلاد، فلما تقارب العسكران قال قسيم الدولة آقسنقر لبوزان: إنما أطعنا هذا الرجل لننظر ما يكون من أولاد صاحبنا، والآن فقد ظهر ابنه، ونريد أن نكون معه. فاتفقا على ذلك وفارقا تتش، وصارا مع بركيارق.
فلما رأى تاج الدولة تتش ذلك علم أنه لا قوة له بهم، فعاد إلى الشام، واستقامت البلاد لبركيارق، فلما قوي أمره سار كوهرائين إلى العسكر يعتذر من مساعدته لتاج الدولة تتش، وأعانه برسق، وتعصب عليه كمشتكين الجاندار، فأخذ إقطاعه، وأعطي الأمير يلبرد زيادة، وولي شحنكية بغداد عوض كوهرائين، وتفرق عن كوهرائين أصحابه، فكان ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر حصر عسكر مصر صور وملكهم لها:

في هذه السنة، في جمادى الآخرة، ملك عسكر المستنصر بالله العلوي، صاحب مصر، مدينة صور.
وسبب ذلك ما ذكرناه سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة: إن أمير الجيوش بدراً، وزير المستنصر، سير العساكر إلى مدينة صور، وغيرها، من ساحل الشام، وكان من بها قد امتنع من طاعتهم، فملكها، وقرر أمورها، وجعل فيها الأمراء.
وكان قد ولى مدينة صور الأمير الذي يعرف بمنير الدولة الجيوشي، فعصى على المستنصر وأمير الجيوش، وامتنع بصور، فسيرت العساكر من مصر إليه، وكان أهل صور قد أنكروا على منير الدولة عصيانه على سلطانه، فلما وصل العسكر المصري إلى صور وحصروها وقاتلوها ثار أهلها، ونادوا بشعار المستنصر وأمير الجيوش، وسلموا البلد، وهجم العسكر المصري بغير مانع ولا مدافع، ونهب من البلد شيء كثير، وأسر منير الدولة ومن معه من أصحابه، وحملوا إلى مصر، وقطع على أهل البلد ستون ألف دينار، فأجحفت بهم.
ولما وصل منير الدولة إلى مصر ومعه الأسرى قتلوا جميعهم ولم يعف عن واحد منهم.

.ذكر قتل إسماعيل بن ياقوتي:

في هذه السنة، في شعبان، قتل إسماعيل بن ياقوتي بن داود، وهو خال بركيارق، وابن عم ملكشاه.
وسبب قتله أنه كان بأذربيجان أميراً عليها، فأرسلت إليه تركان خاتون، زوجة ملكشاه، تطمعه أن تتزوج به، وتدعوه إلى محاربة بركيارق، فأجابها إلى ذلك، وجمع خلقاً كثيراً من التركمان وغيرهم، وصار أصحاب سرهنك ساوتكين في خيله، وأرسلت إليه تركان خاتون كربوقا، وغيره من الأمراء، في عسكر كثير مدداً له، فجمع بركيارق عساكره، وسار إلى حرب خاله إسماعيل، فالتقوا عند الكرج، فانحاز الأمير يلبرد إلى بركيارق، وصار معه، فانهزم إسماعيل وعسكره، وتوجه إلى أصبهان، فأكرمته تركان خاتون، وخطبت له، وضربت اسمه على الدينار بعد ابنها محمود بن ملكشاه.
وكاد الأمر في الوصلة يتم بينهما، فامتنع الأمراء من ذلك لا سيما الأمير أنر، وهو مدبر الأمر، وصاحب الجيش، وآثروا خروج إسماعيل عنهم، وخافوه، وخاف هو أيضاً منهم، ففارقهم، وراسل أخته زبيدة والدة بركيارق في اللحاق بهم، فأذنت له في ذلك، فوصل إليهم، وأقام عندهم أياماً يسيرة، فخلا به كمشتكين الجاندار، وآقسنقر، وبوزان، وبسطوه في القول، فأطلعهم على سره، وأنه يريد السلطنة، وقتل بركيارق، فوثبوا عليه فقتلوه، وأعلموا أخته خبره فسكتت عنه.

.ذكر أخذ الحجاج:

في هذه السنة انقطع الحج من العراق لأسباب أوجبت ذلك، وسار الحاج من دمشق مع أمير أقامه تاج الدولة تتش صاحبها، فلما قضوا حجهم وعادوا سائرين سير أمير مكة، وهو محمد بن أبي هاشم، عسكراً فلحقوهم بالقرب من مكة، ونهبوا كثيراً من أموالهم وجمالهم، فعادوا إليها، ولقوه، وسألوه أن يعيد عليهم ما أخذ منهم، وشكوا إليه بعد ديارهم، فأعاد بعض ما أخذ منهم، فلما أيسوا منه ساروا من مكة عائدين على أقبح صورة، فلما أبعدوا عنها ظهر عليهم جموع من العرب في عدة جهات، فصانعوهم على مال أخذوه من الحاج، بعد أن قتل منهم جماعة وافرة، وهلك فيه قوم بالضعف والانقطاع، وعاد السالم على أقبح صورة.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في جمادى الأولى، قدم إلى بغداد أردشيرين بن منصور أبو الحسين الواعظ، العبادي، وأكثر الوعظ بالمدرسة النظامية، وهو مروزي، وقدم بغداد قاصداً للحج، وكان له قبول عظيم، بحيث أن الغزالي وغيره من الأئمة ومشايخ الصوفية الكبار يحضرون مجلسه، وذرع في بعض المجالس الأرض التي فيها الرجال، فكان طولها مائة وخمس وسبعين ذراعاً، وعرضها مائة وعشرين ذراعاً، وكانوا يزدحمون ازدحاماً كثيراً، وكان النساء أكثر من ذلك، وكان له كرامات ظاهرة، وعبادات كثيرة.
وكان سبب منعه من الوعظ أنه نهى أن يتعامل الناس ببيع القراضة بالصحيح، وقال هو ربا، فمنع من الوعظ، وأخرج من البلد.
وفيها وقعت الفتنة ببغداد بني العامة، وقصد كل فريق الفريق الآخر، وقطعوا الطرقات بالجانب الغربي، وقتل أهل النصرية مصلحياً، فأرسل كوهرائين فأحرقها، واتصلت الفتنة بين أهل الكرخ وباب البصرة، وكان للعميد الأغر أبي المحاسن الدهستاني في إطفاء هذه الفتنة أثر حسن.
وفيها، في شعبان، سار سيف الدولة صدقة بن مزيد إلى السلطان بركيارق، فلقيه بنصيبين، وسار معه إلى بغداد، فوصلها في ذي القعدة ومعه وزيره عز الملك بن نظام الملك، وخرج عميد الدولة والناس إلى لقائه من عقرقوف.
وفيها ولد للمستظهر بالله ولد سمي الفضل، وكني أبا منصور، ولقب عمدة الدين، وهو المسترشد بالله.
وفيها، في رمضان، قتل الأمير يلبرد، قتله بركيارق، وكان من الأمراء الكبار مع أبيه، فزاده بركيارق إقطاع كوهرائين، وشحنكية بغداد، فلما وصل إلى دقوقا أعيد منها لأنه تكلم، فيما يتعلق بوالدة السلطان بركيارق، بكلام شنيع، فلما وصل إليه أصبح مقتولاً.
وفيها، في المحرم، توفي علي بن أحمد بن يوسف أبو الحسن القرشي، الهكاري، المعروف بشيخ الإسلام، وكان فاضلاًن عابداً، كثير السماع، إلا أن الغرائب في حديثه كثيرة لا يدرى ما سببها، والأمير أبو نصر علي بن هبة الله بن علي بن جعفر العجلي، المعروف بابن ماكولا، مصنف كتاب الإكمال، قتله غلمانه الأتراك بكرمان، ومولده سنة اثنتين وأربعمائة، وكان حافظاً.
وفيها، في صفر، توفي أبو محمد عامر الضرير، وكان فقيهاً شافعياً، مقرئاً، نحوياً، وكان يصلي في رمضان بالإمام المقتدي بأمر الله.
وفي جمادى الأولى توفي الأمير أبو الفضل جعفر بن المقتدي، وأمه ابنة السلطان ملكشاه، وإليه تنسب الجعفريات.
وفي رجب توفي الشيخ أبو سعد عبد الواحد بن أحمد بن المحسن الوكيل بالمخزن، وكان فقيهاً شافعياً، كثير الإحسان إلى أهل العلم، وكان محموداً في ولايته.
وفيها توفي كمال الملك الدهستاني الذي كان عميد بغداد.
وفي رمضان توفي المشطب بن محمد الحنفي بالكحيل من أرض الموصل، وكان الخليفة قد أرسله إلى بركيارق، وكان بالموصل، ومعه تاج الرؤساء أبو نصر بن الموصلايا، وكان شيخاً كبيراً، عالماً، مكرماً عند الملوك، وحمل إلى العراق، ودفن عند أبي حنيفة.
وفيه توفي القاضي أبو علي يعقوب بن إبراهيم المرزباني، قاضي باب الأزج، وولي مكانه القاضي ابو المعالي عزيزي، وكان أبو المعالي شافعياً، أشعرياً، مغالياً، وله مع أهل باب الأزج أقاصيص وحكايات عجيبة.
وفيها توفي نصر بن الحسن بن القاسم بن الفضل أبو الليث، وأبو الفتح التنكتي، له كنيتان، سافر في البلاد شرقاً وغرباً، روى صحيح مسلم وغيره، وكان ثقة، ومولده سنة ست وأربعمائة.
وفي ذي الحجة منها توفي أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الحنبلي، الفقيه وكان وافر العلم، غزير الدين، حسن الوعظ والسمت. ثم دخلت:

.سنة سبع وثمانين وأربعمائة:

.ذكر الخطبة للسلطان بركيارق:

في هذه السنة، يوم الجمعة رابع عشر المحرم، خطب ببغداد للسلطان بركيارق بن ملكشاه، وكان قدمها أواخر سنة ست وثمانين، وأرسل إلى الخليفة المقتدي بأمر الله يطلب الخطبة، فأجيب إلى ذلك، وخطب له، ولقب ركن الدين.
وحمل الوزير عميد الدولة بن جهير الخلع إلى بركيارق، فلبسها، وعرض التقليد على الخليفة ليعلم عليه، فعلم فيه، وتوفي فجأة على ما نذكره، إن شاء الله تعالى، وولي ابنه الإمام المستظهر بالله الخلافة، فأرسل الخلع والتقليد إلى السلطان بركيارق، فأقام ببغداد إلى ربيع الأول من السنة، وسار عنها إلى الموصل.

.ذكر وفاة المقتدي بأمر الله:

في هذه السنة، يوم السبت خامس عشر المحرم، توفي الإمام المقتدي بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن الذخيرة بن القائم بأمر الله أمير المؤمنين فجأة، وكان قد أحضر عنده تقليد السلطان بركيارق ليعلم فيه، فقرأه، وتدبره، وعلم فيه، ثم قدم إليه طعام، فأكل منه، وغسل يديه، وعنده قهرمانته شمس النهار، فقال لها: ما هذه الأشخاص التي دخلت علي بغير إذن؟ قالت: فالتفت فلم أر شيئاً، ورأيته قد تغيرت حالته، واسترخت يداه ورجلاه، وانحلت قوته، وسقط إلى الأرض، فظننتها غشية قد لاحقته، فحللت أزرار ثوبه، فوجدته وقد ظهرت عليه أمارات الموت، ومات لوقته.
قالت: فتماسكت، وقلت لجارية عندي: ليس هذا وقت إظهار الجزع والبكاء، فإن صحت قتلتك، وأحضرت الوزير فأعلمته الحال، فشرعوا في البيعة لولي العهد، وجهزوا المقتدي، وصلى عليه ابنه المستظهر، بالله، ودفنوه، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة وثمانية أشهر وسبعة أيام، وكانت خلافته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر غير يومين، وأمه أم ولد أرمنية تسمى أرجوان، وتدعى قرة العين، أدركت خلافته، وخلافة ابنه المستظهر بالله، وخلافة ابن ابنه المسترشد بالله.
ووزر له فخر الدولة أبو نصر بن جهير، ثم أبو شجاع، ثم عميد الدولة أبو منصور بن جهير.
وقضاته: أبو عبد الله الدامغاني، ثم أبو بكر الشامي.
وكانت أيامه كثيرة الخير، واسعة الرزق، وعظمت الخلافة أكثر مما كان من قبله، وانعمرت ببغداد عدة محال في خلافته منها: البصلية، والقطيعة، والحلبة، والمقتدية، والأجمة، ودرب القيار، وخربة ابن جردة، وخربة الهراس، والخاتونيتين.
وأمر بنفي المغنيات والمفسدات من بغداد، وبيع دورهن، فنفين، ومنع الناس أن يدخل أحد الحمام إلا بمئزر، وقلع الهرادي، والأبراج التي للطيور، ومنع من اللعب بها لأجل الاطلاع على حرم الناس، ومنع من إجراء ماء الحمامات إلى دجلة، وألزم أربابها بحفر آبار للمياه، وأمر أن من يغسل السمك المالح يعبر إلى النجمي فيغسله هناك، ومنع الملاحين أن يحملوا الرجال والنساء مجتمعين، وكان قوي النفس، عظيم الهمة من رجال بني العباس.

.ذكر خلافة المستظهر بالله:

لما توفي المقتدي بأمر الله، أحضر ولده أبو العباس أحمد المستظهر بالله، وأعلم بموته، وحضر الوزير فبايعه، وركب إلى السلطان بركيارق، فأعلمه الحال، وأخذ بيعته للمستظهر بالله.
فلما كان اليوم الثالث من موت المقتدي أظهر ذلك، وحضر عز الملك ابن نظام الملك وزير بركيارق، وأخوه بهاء الملك، وأمراء السلطان، وجمع أرباب المناصب: النقيبان طراد العباسي، والمعمر العلوي في أصحابهما، وقاضي القضاة، والغزالي، والشاشي، وغيرهما من العلماء، فجلسوا في العزاء، وبايعوا، وكان للمستظهر بالله لما بويع ست عشرة سنة وشهران.

.ذكر قتل قسيم الدولة آقسنقر وملك تتش حلب والجزيرة وديار بكر وأذربيجان وهمذان والخطبة له ببغداد:

في هذه السنة، في جمادى الأولى، قتل قسيم الدولة آقسنقر، جد ملوكنا بالموصل الآن، أولاد الشهيد زنكي بن آقسنقر.
وسبب قتله أن تاج الدولة تتش لما عاد من أذربيجان منهزماً لم يزل يجمع العساكر، فكثرت جموعه، وعظم حشده، فسار في هذا التاريخ عن دمشق نحو حلب ليطلب السلطنة، فاجتمع قسيم الدولة آقسنقر، وبوزان، وأمدهما ركن الدين بركيارق بالأمير كربوقا الذي صار بعد صاحب الموصل، فلما اجتمعوا ساروا إلى طريقه، فلقوه عند نهر سبعين قريباً من تل السلطان، بينه وبين حلب ستة فراسخ، واقتتلوا، واشتد القتال، فخامر بعض العسكر الذين مع آقسنقر، فانهزموا، وتبعهم الباقون، فتمت الهزيمة، وثبت آقسنقر، فأخذ أسيراً، وأحضر عند تتش، فقال له: لو ظفرت بي ما كنت صنعت؟ قال: كنت أقتلك! فقال له: أنا أحكم عليك بما كنت تحكم علي، فقتله صبراً.
وسار نحو حلب، وكان قد دخل إليها كربوقا، وبوزان، فحفظاها منه، وحصرها تتش ولج في قتالها حتى ملكها، سلمها إليه المقيم بقلعة الشريف، ومنها دخل البلد، وأخذهما أسيرين، وأرسل إلى حران والرها ليسلموه من بهما وكانتا لبوزان، فامتنعوا من التسليم غليه، فقتل بوزان، وأرسل رأسه إليهم وتسلم البلدين.
وأم كربوقا فإنه أرسله إلى حمص، فسجنه بها إلى أن أخرجه الملك رضوان بعد قتل أبيه تتش.
وكان قسيم الدولة أحسن الأمراء سياسة لرعيته، وحفظاً لهم، وكانت بلاده بين رخص عام، وعدل شامل، وأمن واسع، وكان قد شرط على أهل كل قرية من بلاده، متى أخذ عندهم قفل، أو أحد من الناس، غرم أهلها جميع ما يؤخذ من الأموال من قليل وكثير، فكانت السيارة، إذا بلغوا قرية من بلاده، ألقوا رحالهم وناموا، وحرسهم أهل القرية إلى أن يرحلوا، فأمنت الطرق.
وأما وفاؤه، وحسن عهده، فيكفيه فخراً أنه قتل في حفظ بيت صاحبه وولي نعمته.
فلما ملك تتش حران والرها سار إلى الديار الجزرية فملكها جميعها، ثم ملك ديار بكر وخلاط، وسار إلى أذربيجان فملك بلادها كلها، ثم سار منها إلى همذان فملكها، ورأى بها فخر الملك بن نظام الملك، وكان بخراسان، فسار منها إلى السلطان بركيارق ليخدمه، فوقع عليه الأمير قماج، وهو من عسكر محمود ابن السلطان ملكشاه بأصبهان، فنهب فخر الملك، فهرب منه ونجا بنفسه، فجاء إلى همذان فصادفه تتش بها، فأراد قتله، فشفع فيه باغي سيان، وأشار عليه أن يستوزره لميل الناس إلى بيته، فاستوزره، وأرسل إلى بغداد يطلب الخطبة من الخليفة المستظهر بالله، وكان شحنته ببغداد ايتكين جب، فلازم الخدمة بالديوان، وألح في طلبها، فأجيب إلى ذلك، بعد أن سمعوا أن بركيارق قد انهزم من عسكر عمه تتش، على ما نذكره.